الثلاثاء، 18 أبريل 2017

حكايات قديمه

الحكايات فى الإسكندرية كثيرة وغزيرة كأمواج البحر ، ومثيرة ويصعب عدها والانتهاء من إحصائها كعدد حبات الرمل ، ولكنها دائماً وأبداً متجددة وطازجة وتثير النشاط والحماسة فى الإنسان تماماً كرائحة اليود الذى يفتح الشُعب الهوائية لمن يستنشقه وينقله الى حالة من السعادة ويبث فيه حالة من الطاقة الإيجابية أو بلغة أهل البلد ( يعمل له دماغ) كذلك حكايات الإسكندرية عن شوارعها وحواريها ومبانيها وأهلها ، كل شبر فى المدينة ملىء بالحكايات .. حكايات من كل العصور .. فكما يقول المؤرخون وكتاب التاريخ ومهندسو البلدية أن الإسكندرية مدينة متعددة الطوابق وكل طابق منها يحكى عن عصر مختلف .. بداية من الطابق الأرضى ( الفرشة الأولى المخلوطة بعجينة يونانية بطلمية) يليها الدور الرومانى ثم البيزنطى والمسيحى ثم الإسلامى ثم العصر الحديث بكل تطوراته ومتغيراته .. كذلك حكاياتها متعددة الطوابق والأمزجة والمشارب ، فالإسكندرية تشبه قطعة الإسفنج التى ما أن تعصرها بيدك حتى تمنحك عصارة جميلة ترضى كل الأذواق والمشارب .. وحكاية هذا الأسبوع عن أحد أشهر ميادين المدينة “ ميدان القناصل أو محمد على أو المنشية “ ميدان متعدد الأسماء ملىء بالحياة ويتدفق بالنشاط والحيوية ولكنه يرصد التدهور الذى أصاب المدينة .. يرصد سقوطها من أعلى سلم الأناقة والشياكة والرقى الى مستنقع العشوائية والغوغائية ، وحكاية هذا الأسبوع سوف تكون من خلال مجموعة من الصور النادرة التى إلتقطها عدد من المصورين فى القرن التاسع عشر هم الإيطالى ليوجى فيوريللو واليونانى بونفيس وسباه وهى كلها لقطات نادرة توضح جمال وإتساع الميدان وأناقته والنسق المعمارى المميز للمبانى الموجودة على جانبيه سواء أكانت منازل أو منشآت إقتصادية أو قنصلية ، ويقول الدكتور محمد عوض فى مقاله عن تحولات المنشية : أنه عندما وصلت حملة «بوناپَرت» عام 1798، كانت المساحة التى تشغلها «المنشية» ساحة مفتوحة أو حيزا غير محدد المعالم أطلقوا عليه اسم «الساحة المستوية» وفى 1814 وصف الرحالة الإنجليزى «برامسِن» المكان بقوله: «الميدان الكبير قرب البحر متسع، لقد تم تحسينه وتغطيته بالحصَى بواسطة الأوروبيين الذين جاءوا ليتنفسوا نسائم البحر ثم بعدها ظهر اسم «ميدان السلاح» مع إكتمال بناء القنصلية الفرنسية وربما كان الميدان آنذاك ساحة للعروض العسكرية… وتظهر خريطة القبطان «سميث» الميدان بالغ الاستطالة وعلى نهايته الشرقية يظهر قصر «توسيتزا». وقد آسند مجلس تخطيط المدينة «الأورناطو» فى 1834 إلى المهندس الإيطالى «فرانشسكو مَنشيني» إنشاء الحى الأفرنجى الجديد حول «الميدان الكبير» الذى سُمى المنشية كتحريف لاسم المهندس وذلك تحت إشراف إبراهيم باشا ابن الوالى الذى كان يملك معظم أراضيه وأبنيته. ويصف «على باشا مبارك» منطقة «المنشية» فى الخطط التوفيقية كأرض شاغرة شبه مفتوحة كانت تستخدم من قِبل البدو كسوق للماشية ولبيع بضائعهم وكانت تعرف آنذاك بـ«كوم الحَلة» ويذكر أن أول بناء أقيم فى المنطقة كان مسجد «الشيخ إبراهيم» ، أما الثانى فكان وكالة «محرم بك»، زوج ابنة محمد علي. وأعقب ذلك بناء سكن «دا أناستازي» وسكن «چيبرا» ، وقد قام «مَنشيني» بتصميم الميدان الجديد الذى بلغ طوله 420 مترا وعرضه 65 مترا وأحاطت به المبانى السكنية المستطيلة بارتفاع ثلاثة أو أربعة طوابق والتى تم طلاؤها باللونين الأصفر والوردى ، وقد وقف قصر «توسيتزا» (القنصل اليوناني) والذى صممه «مانشيني» على رأس الجهة الشرقية للميدان بالإضافة لقصر 

 

 

 


الكونت «زيزينيا» قنصل بلجيكا.

وقد غلبت الأنشطة التجارية على الميدان فكان هناك العديد من الوكالات مثل «چِبرا»، و«دا أنستازي»، و «نوڤ»، وكانت أدوارها الأرضية مخصصة للمشروعات التجارية مثل مكتبة «روبرتسَن وشركاه»، ومجوهرات «روتشمَن»، و«بوريه» لتصفيف الشعر، ومصورين مثل «فوريليو» ومتاجر أزياء مثل «كورديه». وكان هناك أيضا العديد من المقاهى والمطاعم والفنادق ، مثل «لو كافيه دو فرانس» والفندق الشهير «اوتيل دوروپ» ، وشملت الأنشطة التجارية شركات التأمين وشركة الغاز و خدمات البريد الإيطالية، والبنوك مثل البنك «المصرى الانجليزي». وكان أشهر بناء على الميدان كما يقول الدكتور عوض هو مبنى القنصلية الفرنسية وكانت حدائقه تفتح للجمهور فى عطلات نهاية الأسبوع ، وكذلك كانت حدائق كنيسة «سانت مارك» الإنجيلية التى كانت أرضها منحة من محمد على باشا عام 1839 وصممها المعمارى البريطانى «چايمس وليَم وايلد» وفى عام 1866 أُنشأت بورصة تبادل الأوراق المالية وإستُخدم قصر «توسيتزا» كمقر للبورصة الجديدة . ثم أصبح الميدان يُعرف بإسم «ميدان محمد علي» بعد إقامة تمثال للباشا ممتطياً جواده من تصميم النحات الفرنسى «چاكومار» عام 1868 بتكلفة بلغت 2 مليون فرانك وقد تم إضاءة الميدان ليلاً وتم تكليف شركة «كورديه» بتشجير الميدان بأربعة صفوف من أشجار الأكاسيا وتم إضافة كشك للموسيقى ونافورة . وفى عام 1882 كان الميدان مسرحا لأعمال الشغب التى حدثت بين المصريين والأجانب وكان من نتيجتها القصف البريطانى للمدينة ولم ينجُ من التدمير فى الميدان سوى مبنين فقط وهما البورصة وكنيسة «سانت مارك» ، فى أعقاب القصف أعيد بناء المدينة بشكل سريع ، وقد تميز إعادة بناء ميدان «محمد علي» بهيمنة التأثير الإيطالى . من بين أهم مبانى هذه الفترة كان مبنى وكالة «مِنَشَّا» التى بناها المقاول اليونانى «ج. زورو»وفقاً لتصميمات المعمارى الإيطالى «أنطونيو لاشياك». ثم «وكالة مونفراتو» الذى صممه «لويجى پياتوللي». و «عمارة پريمي» التى صممها «لاشياك»، وفرع «البنك العثمانى الإمبراطوري» الرئيسى الذى صممه «بروسپر ريمي»، وكذلك «البورصة» التى شغلت قصر «توسيتزا» بعد تجديده ، ثم مقر «المحاكم المختلطة» الجديدة التى صممها «ألفونسو مانيسكالكو» عام 1886. ثم بدأ تجريد الميدان من قيمته بعد1882 ، عندما قامت النخبة فى نقل مساكنهم نحو شارع «رشيد» وحى «محرم بك» وضاحية «الرمل» كما أن القرن العشرين لم يشهد الكثير من التغييرات فى الميدان بإستثناء إنشاء خطوط الترام الكهربائية 1897-1904وإنشاء الحدائق الفرنسية . وخلال الثلاثينيات والأربعينيات تمت إعادة التطوير مما أدى

إلى إحلال بعض المبانى القديمة والرائعة مثل بناية «پريمي» ببنايات أخرى كما آقام «كوتسيكا» بناية بطراز حداثى مبكر بشكل يختلف عن النظام والطراز القائمين فى الميدان. ثم بعد ثورة 1952 تمت إزالة الحى السكنى الذى بُنى إلى الجنوب من الميدان لإفساح الطريق لشارع «النصر». ثم ظهر سوق «ليبيا» كما تم رفع تمثال الخديوى إسماعيل من فوق قاعدته فى النصب التذكارى الذى أقيم فى نهاية «الحدائق الفرنسية» على البحر كهدية من الجالية الإيطالية وتم تصميمه عام 1938 بواسطة المعمارى الايطالى «إرنستو ڤيرّوتشي» وإستخدم المكان كنصب تذكارى للجندى المجهول ، وفى 26 أكتوبر 1954 شهد الميدان محاولة فاشلة لإغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وفى أحداث 1977 التى سُميت بإنتفاضة الخبز احترق مبنى البورصة وتم هدمه فيما بعد .. وللحديث بقية عن مبانى الميدان الذى كان يوماً ما ميداناً للقناصل .. والله .. الله على إسكندرية زمان …

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق